فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال القرطبي:

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}
فيه مسألتان:
الأولى قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} التقدير في العربية: أجعلتم أصحاب سقاية الحاج، أو أهل سقاية الحاج، مثلَ من آمن بالله وجاهد في سبيله.
ويصح أن يقدّر الحذف في {من آمن} أي أجعلتم عمل سقي الحاج كعمل من آمن.
وقيل: التقدير كإيمان من آمن.
والسِّقَاية مصدر كالسِّعاية والحِماية.
فجعل الاسم بموضع المصدر إذْ عُلم معناه؛ مثل إنما السخاء حاتم، وإنما الشِّعر زُهير.
وعمارة المسجد الحرام مثل {واسأل الْقَرْيَةَ}.
وقرأ أبو وَجْزة {أجعلتم سُقاةَ الحاج وَعَمرة المسجد الحرام} سُقَاة جمع ساقٍ والأصل سُقْية على فُعْلَةٍ؛ كذا يجمع المعتلّ من هذا، نحو قاض وقُضَاة وناسٍ ونُسَاة.
فإن لم يكن معتلاّ جمع على فُعَلَةٍ نحو ناسئ ونَسَأَة، للذين كانوا ينسئون الشهور.
وكذا قرأ ابن الزبير وسعيد بن جبير سُقاة وعَمَرة، إلاَّ أن ابن جُبير نصب المسجد على إرادة التنوين في عَمَرة.
وقال الضحاك: سُقاية بضم السين، وهي لغة.
والحَاجُّ اسم جنس الحُجّاج.
وعمارة المسجد الحرام: معاهدته والقيام بمصالحه.
وظاهر هذه الآية أنها مبطلة قول من افتخر من المشركين بسقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام؛ كما ذكره السُّدِّي.
قال: افتخر عَباسٌ بالسقاية، وشِيبَةُ بالعمارة، وعليٌّ بالإسلام والجهاد؛ فصدَّق الله عليًّا وكذبهما، وأخبر أن العمارة لا تكون بالكفر، وإنما تكون بالإيمان والعبادة وأداء الطاعة.
وهذا بيّن لا غُبار عليه.
ويُقال: إن المشركين سألوا اليهود وقالوا: نحن سُقاة الحاج وعمّار المسجد الحرام، أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت لهم اليهود عنادًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم أفضل.
وقد اعترض هنا إشكال، وهو ما جاء في صحيح مسلم عن النُّعمان بن بَشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أُبالي ألاّ أعمل عملا بعد الإسلام إلاَّ أن أسقي الحاج.
وقال آخر: ما أُبالي ألاّ أعمل عملًا بعد الإسلام إلاَّ أن أعمِّر المسجد الحرام.
وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم.
فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند مِنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صُلِّيَتْ الجمعة دخلتُ واستفتيتُه فيما اختلفتم فيه.
فأنزل الله عزّ وجلّ: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} إلى آخر الآية.
وهذا المساق يقتضي أنها إنما نزلت عند اختلاف المسلمين في الأفضل من هذه الأعمال.
وحينئذ لا يليق أن يُقال لهم في آخر الآية: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} فتعين الإشكال.
وإزالته بأن يُقال: إن بعض الرواة تسامح في قوله؛ فأنزل الله الآية.
وإنما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم الآية على عمر حين سأله فظن الراوي أنها نزلت حينئذٍ، واستدلّ بها النبي صلى الله عليه وسلم على أن الجهاد أفضل مما قال أُولئك الذين سمعهم عمر؛ فاستفتى لهم فتلا عليه ما قد كان أنزل عليه، لا أنها نزلت في هؤلاء. والله أعلم.
فإن قيل: فعلى هذا يجوز الاستدلال على المسلمين بما أنزل في الكافرين، ومعلوم أن أحكامهم مختلفة.
قيل له: لا يُستبعد أن يُنتزع مما أنزل الله في المشركين أحكام تليق بالمسلمين.
وقد قال عمر: إنا لو شئنا لاتخذنا سَلاَئق وشواء وتُوضع صحفة وتُرفع أُخرى، ولكنا سمعنا قول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا} [الأحقاف: 20].
وهذه الآية نص في الكفار، ومع ذلك ففهم منها عمرُ الزجر عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة.
فيمكن أن تكون هذه الآية من هذا النوع.
وهذا نفيس وبه يزول الإشكال ويرتفع الإبهام. والله أعلم. اهـ.

.قال الخازن:

قوله سبحانه وتعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الآية.
(م) عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام.
قال الآخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم فزجره عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة ولكن إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيه فيما اختلفتم فيه فأنزل الله: {أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر} إلى آخرها.
وقيل: قال العباس حين أسروا يوم بدر لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج فأنزل الله هذه الآية وأخبر أن عمارتهم المسجد الحرام وقيامهم على السقاية لا ينفعهم مع الشرك بالله وإن الإيمان والجهاد مع نية خير مما هم عليه.
وقال الحسن والشعبي ومحمد بن كعب القرظي: نزلت في علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب وطلحة بن أبي شيبة افتخروا فقال طلحة أنا صاحب البيت بيدي مفاتيحه.
وقال العباس: وأنا صاحب السقاية والقيامة عليها وقال ما أدري ما تقولون لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فأنزل الله هذه الآية: {أجعلتم سقاية الحاج} والسقاية مصدر كالرعاية والحماية وهي: سقي الحاج وكان العباس ابن عبد المطلب بيده سقاية الحاج وكان يليها في الجاهلية فلما جاء الإسلام وأسلم العباس أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وعمارة المسجد الحرام يعني بناؤه وتشييده ومرمته {كمن آمن بالله واليوم الآخر} فيه حذف تقديره كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر {وجاهد في سبيل الله} أي وكجهاد من جاهد في سبيل الله.
وقيل: السقاية والعمارة بمعنى الساقي والعامر تقديره: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله: {لا يستوون عند الله} يعني: لا يستوي حال هؤلاء الذين آمنوا بالله وجاهدوا في سبيل الله بحال من سقى الحاج وعمر المسجد الحرام وهو مقيم على شركه وكفره لأن الله سبحانه وتعالى لا يقبل عملًا إلا مع الإيمان به {والله لا يهدي القوم الظالمين} (خ) عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء إلى السقاية فاستسقى فقال العباس: يا فضل اذهب إلى أمك فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشراب من عندها فقال اسقني فقال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه قال اسقني فشرب منه ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح ثم قال لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا يعني عاتقه.
عن بكر بن عبد الله المزني قال: كنت جالسًا مع ابن عباس عند الكعبة فأتاه أعرابي فقال مالي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ أمن حاجة بكم أم من بخل فقال ابن عباس الحمد لله ما بنا من حاجة ولا بخل إنما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته وخلفه أسامة فاستسقى فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب وسقى فضله أسامة فقال: «أحسنتم أو أجملتم كذا فاصنعوا» فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم النبيذ تمر ينقع في الماء غدوة ويشرب عشاء أو ينقع عشاء ويشرب غدوة وهذا حلال فإن غلى وحمض حرم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر}
في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أنْ لا أعمل عملًا بعد أن أسقي الحاج.
وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملًا بعد أن أعمرَ المسجد الحرام.
وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم، فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة، ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه، فنزلت هذه الآية.
وذكر ابن عطية وقوله أقوالًا آخر في سبب النزول كلها تدل على الافتخار بالسقاية والعمارة.
وقرأ الجمهور: سقاية وعمارة وهما مصدران نحو الصيانة والوقاية وقوبلا بالذوات، فاحتيج إلى حذف من الأول أي: أهل سقاية، أو حذف من الثاني أي: كعمل من آمن.
وقرأ ابن الزبير والباقر وأبو حيوة: سقاة الحاج، وعمرة المسجد، جمع ساق وجمع عامر كرام ورماة وصانع وصنعة.
وقرأ ابن جبير كذلك، إلا أنه نصب المسجد على إرادة التنوين في عمرة.
وقرأ الضحاك: سقاية بضم السين، وعمرة بني الجمع على فعال كرخل ورخال، وظئر وظؤار، وكان المناسب أن يكون بغير هاء، لكنه أدخل الهاء كما دخلت في حجارة.
وكانت السقاية في بني هاشم وكان العباس يتولاها، ولما نزلت هذه الآية قال العباس: ما أراني إلا أترك السقاية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيموا عليها فهي لكم خير» وعمارة المسجد هي السدانة، وكان في بني عبد الدار، وشيبة وعثمان بن طلحة هما اللذان دفع إليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة في ثامن يوم الفتح بعد أن طلبه العباس وعليّ، وقال صلى الله عليه وسلم لعثمان وشيبة: «خذوها خالدة تالدة لا ينازعكما عليها إلا ظالم» يعني السدانة.
ومعنى الآية: إنكار أن يشبه المشركون بالمؤمنين وأعمالهم المحبطة بأعمالهم المثبتة.
ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين}، من الراجح منهما وأنّ الكافرين بالله هم الظالمون ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله، وبما جاء به الرسول، وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله متعبدًا له فجعلوه متعبدًا لأوثانهم.
وذكر في المؤمنين إثبات الهداية لهم بقوله: {فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين} وفي المشركين هنا نفى الهداية بقوله: {والله لا يهدي القوم الظالمين}. اهـ.

.قال أبو السعود:

{أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} أي في الفضيلة وعلوِّ الدرجة {كَمَنْ ءامَنَ بالله واليوم الآخر وجاهد في سَبِيلِ الله} السقايةُ والعِمارةُ مصدران لا يتصور تشبيهُهما بالأعيان فلابد من تقدير مضافٍ في أحد الجانبين أي أجعلتم أهلَهما كمن آمن بالله الخ، ويؤيده قراءةُ من قرأ سُقاةَ الحاجِّ وعُمرةَ المسجد الحرام أو أجعلتموهما كإيمان من آمن الخ، وعلى التقديرين فالخطابُ إما للمشركين على طريقة الالتفاتِ وهو المتبادر من تخصيص ذكرِ الإيمانِ بجانب المشبَّهِ به، وإما لبعض المؤمنين المؤثِرين للسقاية والعِمارةِ ونحوِهما على الهجرة والجهادِ ونظائرِهما وهو المناسبُ للاكتفاء في الرد عليهم ببيان عدمِ مساواتِهم عند الله للفريق الثاني وبيانِ أعظميةِ درجتِهم عند الله تعالى على وجه يُشعر بعدم حِرمانِ الأوّلين بالكلية، وجعلُ معنى التفضيلِ بالنسبة إلى زعم الكفرةِ لا يُجدي كثيرَ نفعٍ لأنه إن لم يُشعِرْ بعدم الحِرمانِ فليس بمُشعر بالحِرمان أيضًا أما على الأول فهو توبيخٌ للمشركين ومدارُه على إنكار تشبيهِ أنفسِهم من حيث اتصافُهم بوصفيهم المذكورين مع قطع النظرِ عما هم عليه من الشرك بالمؤمنين من حيث اتصافُهم بالإيمان والجهاد، أو على إنكار تشبيهِ وصفيهم المذكورين في حد ذاتِهما مع الإغماض عن مقارنتهما للشرك بالإيمان والجهادِ، وأما اعتبارُ مقارنتِهما له كما قيل فيأباه المقامُ، كيف لا وقد بيِّن آنفًا حبوطُ أعمالِهم بذلك الاعتبارِ بالمرة وكونُها بمنزلة العدم، فتوبيخُهم بعد ذلك على تشبيههما بالإيمان والجهادِ ثم رَدُّ ذلك بما يُشعر بعدم حِرمانِهم عن أصل الفضيلة بالكلية كما أشير إليه، مما لا يساعده النظمُ التنزيليُّ ولو اعتُبر ذلك لما احتيج إلى تقرير إنكارِ التشبيهِ وتأكيدِه بشيء آخرَ إذ لا شيءَ أظهرُ بطلانًا من تشبيه المعدومِ بالموجود، فالمعنى أجعلتم أهلَ السقايةِ والعمارةِ في الفضيلة كمن آمن بالله واليومِ الآخرِ وجاهد في سبيله أو أجعلتموهما في ذلك كالإيمان والجهادِ وشتانَ بينهما فإن السقايةَ والعمارةَ وإن كانتا في أنفسِهما من أعمال البرِّ والخيرِ لكنهما وإن خَلَتا عن القوادح بمعزل عن صلاحيةِ أن يُشبَّه أهلُهما بأهل الإيمان والجهادِ أو يُشَّبهَ أنفسُهما بنفس الإيمان والجهادِ، وذلك قوله عز وجل: {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} أي لا يساوي الفريقُ الأول الثانيَ من حيث اتصافُ كلَ منهما بوصفيهما ومن ضرورته عدمُ التساوي بين الوصفَين الأولين وبين الآخَرَين لأنه المدارَ في التفاوت بين الموصوفَين، وإسنادُ عدمِ الاستواءِ إلى الموصوفين، لأن الأهمَّ بيانُ تفاوتِهم، وتوجيهُ النفي هاهنا والإنكارُ فيما سلف إلى الاستواء والتشبيهِ مع أن دعوى المفتخِرين بالسقاية والعمارةِ من المشركين والمؤمنين إنما هي الأفضليةُ دون التساوي والتشابه للمبالغة في الرد عليهم فإن نفيَ التساوي والتشابهِ نفيٌ للأفضلية بالطريق الأولى، والجملةُ استئنافٌ لتقرير الإنكارِ المذكورِ وتأكيدِه، أو حال من مفعولي الجَعل، والرابطُ هو الضميرُ كأنه قيل: أسوَّيتم بينهم حال كونِهم متفاوتين عنده تعالى وقوله تعالى: {والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين} حُكمٌ عليهم بأنهم مع ظلمهم بالإشراك ومعاداةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم ضالون في هذا الجعلِ غيرُ مهتدين إلى طريق معرفةِ الحقِّ وتمييزِ الراجحِ من المرجوح، وظالمون بوضع كلَ منهما موضعَ الآخَر وفيه زيادةُ تقريرٍ لعدم التساوي بينهم. اهـ.